
لطالما كانت السياسة فن الممكن، ولكنها اليوم أصبحت أيضًا فن التغريد والتدوين والتمثيل الرقمي، حيث يطل علينا الساسة من شاشات هواتفنا بدلًا من المنابر والميكروفونات. في الماضي، كان السياسي يحتاج إلى منصة جماهيرية، وميزانية ضخمة، وكاريزما بحجم ناطحة سحاب ليصل إلى الناخبين. اليوم؟ يكفيه هاتف ذكي وحساب على تويتر.
من البروشورات إلى البوستات
شهدت الحملات الانتخابية تطورات درامية، تبدأ من عصر الملصقات والمنشورات الورقية مرورًا بالإعلانات التلفزيونية، وانتهاءً بالحقبة الإلكترونية التي نعيشها الآن. لكن المفارقة أن الأحزاب، رغم كل هذه الإمكانيات، ما زالت تستعمل الإنترنت كما تستعمل العجائز الهواتف الذكية: بإصرار لكن دون فهم حقيقي.
كانت الحملات الإلكترونية في البداية تعتمد على مواقع إلكترونية جامدة، مليئة بصور المرشحين وهم يبتسمون ابتسامات مدروسة وكأنهم يمضغون قطعة ليمون في السر. ثم جاءت مواقع التواصل الاجتماعي، لتمنح السياسي فرصة التواصل المباشر مع الشعب، لكنها أيضًا منحته فرصة ذهبية ليقول حماقات لا تُنسى تُطارده إلى الأبد.
مرحبا بكم في عصر “السياسي المؤثر”
مع ظهور تويتر، تحول السياسيون إلى نجوم سوشيال ميديا، يشاركوننا تفاصيل حياتهم اليومية: أحدهم يشتكي من ازدحام المرور، وآخر يخبرنا أنه يتناول القهوة بحليب اللوز، وثالث يتحدث عن كتاب يقرأه حاليًا، وكأننا جميعًا متشوقون لمعرفة ذوقه الأدبي. لكن هذه التغريدات “الشخصية” ليست عشوائية، بل مدروسة جيدًا لكسر الحاجز النفسي بين السياسي والمواطن، في محاولة لإيهام الجماهير بأن المرشح “إنسان عادي مثلهم”… مع فارق بسيط: حسابه البنكي يكفي لشراء جزيرة.
التكنولوجيا في خدمة السياسة… أو العكس؟
الرهان الكبير كان أن تجعل وسائل التواصل الاجتماعي السياسة أكثر ديمقراطية، بحيث يتمكن الجميع من التفاعل والمشاركة. لكن الواقع أثبت أن السياسيين استخدموا هذه الأدوات بنفس الطريقة القديمة: الحديث من طرف واحد. تويتر، الذي يُفترض أن يكون منصة حوار، تحول إلى مكبر صوت للسياسيين يكررون فيه نفس العبارات الرنانة التي سمعناها في التلفزيون، لكن في 280 حرفًا فقط.
الأمر لا يخلو من بعض اللحظات الذهبية، فبفضل تويتر، شهدنا زلات لسان كارثية، وردود فعل غاضبة من الساسة الذين لم يفهموا بعد أن الإنترنت لا ينسى. كما رأينا سياسيين يدخلون في مشاجرات إلكترونية مع مواطنين مجهولين، مما يجعلنا نتساءل: هل يدير هؤلاء الأشخاص بلادًا أم مجرد حسابات على مواقع التواصل؟
هل تغيرت اللعبة السياسية؟
البحث في أثر تويتر على الحملات الانتخابية يشير إلى أن المرشحين التقدميين هم الأكثر استخدامًا له، بينما لا يزال المحافظون متمسكين بأساليبهم التقليدية. لكن المفاجأة أن الأحزاب الصغيرة، التي كان يُفترض أن تستفيد من وسائل التواصل الاجتماعي لكسر احتكار الإعلام التقليدي، لم تحقق تقدمًا يُذكر، مما يثبت أن المشكلة ليست في الأداة، بل في من يستخدمها.
وبينما كانت التوقعات تشير إلى أن تويتر سيجعل الحملات السياسية مستمرة طوال العام، وجد الباحثون أن النشاط السياسي على المنصة ينخفض بشكل حاد بعد الانتخابات، وكأن السياسيين يفقدون الاهتمام فجأة بمجرد وضع أصوات الناخبين في الصناديق.
الخاتمة: هل نعيش حقًا في عصر الديمقراطية الرقمية؟
يبدو أن السياسة الرقمية لم تُحدث الثورة الديمقراطية التي كنا نأملها. نعم، أصبح الوصول إلى السياسيين أسهل، لكن لا يزال المواطن العادي خارج دائرة التأثير الحقيقي. تويتر لم يجعل السياسة أكثر قربًا للناس، بل جعل السياسيين أكثر استعراضًا وأقل تحفظًا… وهي معادلة قد تكون مسلية لنا نحن المشاهدين، لكنها لا تعني بالضرورة أننا نحصل على ديمقراطية أفضل.
في النهاية، سواء كان السياسي يصرخ في تجمع انتخابي أو يغرد من هاتفه الذكي، يبقى السؤال الأهم: هل يستمع إلينا حقًا؟ أم أن كل هذه الضوضاء مجرد وسيلة أخرى لجعلنا نظن أننا جزء من اللعبة، بينما نحن مجرد جمهور يشاهد العرض من بعيد؟